المصدر : عياد مخلف العنزي
التاريخ: ١٠:٤٥ ص-١٨ مايو-٢٠٢٣       179

يروي بعض مؤرخي اللغة العربية وعلى رأسهم الدكتور طه حسين رحمه الله أن أقدم نص للشعر العربي يعود إلى مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي أي عمره ألف وخمسمائة سنة ، بينما لا يجد قارئ العربية صعوبة أن يقرأه ويفهمه فالقواعد هي نفسها وتراكيب الجملة نفس ما هو اليوم ، والغموض الذي يصاحب جانبا منه أحيانا مرده سبب آخر غير اللغة نفسها إن إنساناً غير خبير  بالصحراء مهما كانت درجة ثقافته يجد بعض العنت في تصور الحياة عليها, حيوانا وأشجاراً وعيوناً وتقاليد ، لأنه مرتبط بدلالات أسماء لا مقابل لها ً في حياتنا المعاصرة .أما المدركات العقلية التي لا تتأثر بالبيئة أو تأثرها محدود فإنها تبدو لنا أكثر صفاء ووضوحا على نحو ما كانت عليه في عصر قائلها ولا أظن عربيا على قدر من الثقافة ولو محدودة يجد عنتا في فهم أبيات المثقب العبدي من شعراء القرن السادس الميلادي:
أفاطم قبل بينك متعيني ومنعك ما سألتك ان تبيني ولاتعدي مواعد كاذبات تمر بها رياح الصيف دوني.
وقد حظيت العربية بعلماء طياسين غاصوا في أعماقها واختلجوا في أحنائها، واستمسكوا بعروة وثقى للبحث العلمي الجامع بين المهارة في المادة والاستمالة الوجدانية عشقا للمرتحل مع ركب الضعون طوافين في أدغال صحراء العرب، والاستئناس بأناسيها وأوانسها فكل عالم في العربية لا يشق له غبار في مجال عمله، وكأنهم قاب قوسين أو أدنى من رصيد لغوي احتاط بلفظ اللغة كله. ولعل فيما خلفه علماء العربية من تأليف وتصانيف في علومها عد دليلا على صدق هذه الحقيقة وهي سمو قدر العربية وكشف عن عمق أثرها وثقل وزنها في لغات شعوب الأرض. تلك العلوم الجمة التي انبثقت منها "كعلم النحو والصرف والبلاغة والعروض والأدب وما تفرع منها كعلم المعاني والبيان والبديع والاشتقاق وأصول النحو والشعر والكتابة فباتت تلك العلوم خير منبئ عن أصالة اللغة العربية وذوق معانيها؛ فقد استولت هذه اللغة العظيمة على اهتمام علماء لغات العالم فقال عنها (إرنست رينان) أحد كبار علماء اللغات وصاحب الموسوعة المسيحية ويعد من علماء العربية أيضا "فهذه اللغة منذ بدايتها بدرجة من الكمال تدفعنا إلى القول بإيجاز:
إنها منذ ذلك الوقت حتى العصر الحاضر لم تتعرض لأي تعديل ذي بال، فاللغة العربية لا طفولة لها وليس لها شيخوخة أيضا منذ ظهرت على المأل ومنذ انتصاراتها المعجزة،
ولست أدري إذا كان يوجد مثل آخر للغة جاءت إلى الدنيا مثل هذه اللغة من غير مرحلة بدائية ولا فترات انتقالية ولا تجارب تتلمس فيها معالم الطريق.
فعلا إن التعبير المدرك النابه إلى تهديف غرضية الاستجلاء المحكم الموصل إلى قناعة تقييم موضوعية تعمل أدوات البحث الصحيحة وهذه طريقة استعملها كل من قصد معرفة أسرار اللغة العربية وسماتها التعبيرية المازجة بين وضوح المعنى وعذوبة اللفظ وكله داخل في
امتلاكها لنظام لغوي تكاملي؛ وقد فطن الغواص اللغوي الذي استهوى هذه المهنة جامعا بين الهواية والاحتراف فزاده ثراؤها المعرفي من درها الكامن في أعماقها الاحساس بالأنس على ساحل شاطئها. وصور هذا طه حسين من تاريخ الادب العربي العصر العباسي الثاني ج3 أثر البيئة في شعر المتنبي "تصور ما عاد به الغلام من البادية من هذه الرصانة اللفظية التي ترفع اللفظ عن الابتذال وتكسبه عذوبة نحس فيها ريح الصحراء.
بانوا بخرعوبه لها كفــل يكاد عند القيام يقعدهـــــــا
يا عاذل العاشقين دع فئــــة أضلها هللا كيف ترشدهـــــــــا
ليس يحيك الملام في تهمتهم أقربها منك عنك أبعدهــــــــا
بئس الليالي شهدت من طرب شوقا إلى من يبيت يرقدهـــــا
فقد أجمعت هذه الخليقة لي أنك يابن النبي أوحدهـــــــــــــا
ولن يرتقي شاعر إلى هذه المرتبة الممتازة من الإبداع الفني في الشعر إلا من (أوتي ماء معين) يسقى من فيضه أفنان أيكه المورق، ويغتسل ذهنه من لجين دفقاته المنعشة فتسري به رعشات كرهبيه تهز، شبكة أسلاك مخه، تمطر عليه فوارق فكرية تتماهى مع سماق أخيلته المجنحة، وأيقونة منظومته الأسلوبية، فالشعر عناق خلاق بين الفكرة والصورة.
ووجدت نفسي تجذبني إلى أن أنقل هذه المقطوعة من رأي عميد الأدب العربي طه حسين فيما قلت عن أبي الطيب "لعلنا نحس أن هذه القصيدة كانت تتدفق من نفس الشاعر كما يتدفق السيل، وتنحدر منها انحدار، يوشك أن يكون عنيفا، ولعل مصدر هذا الإحساس هذا البحر الذي اختاره، واستكمل الشاعر، رغم صباه حين قال هذه القصيدة.
ذلك أن المتنبي يحسن المقابلة بين الأضداد في أنفسها، كما يحسن المقابلة بين الألفاظ، التي يختارها، ليدل بها على هذه الأضداد، عرف كيف يضعها في مواضيعها، وكيف يلائم بينها، وبين ما يسبقها، وما يلحقها، من الألفاظ وتأتي له بذلك تحقيق شيء، من الاتساق البديع، ويشغلك، عما تكلف الشاعر من الجهد في تحقيق هذا لنفسه".
 

١١:٤١ م-١٣ اكتوبر-٢٠٢٤
١١:٥٨ ص-٠٧ اكتوبر-٢٠٢٤
٠٤:٥٤ م-٠٥ اكتوبر-٢٠٢٤
١١:٤٠ ص-٣٠ سبتمبر-٢٠٢٤
٠٩:٤٩ م-١٥ سبتمبر-٢٠٢٤