المصدر : صباح اليوم - متابعات - جريدة الرياض:
التاريخ: ١١:٤٨ ص-٠٦ يوليو-٢٠٢٣       138

يضع جمهور العلماء والنخب الثقافية الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان في عداد علماء الشريعة وأحد أبرز فقهاء هذا العصر، ولا شك في هذه المكانة التي نالها عن دراية شاملة بقضايا الفقه الإسلامي، بيد أني يحلو لي وضع هذا الرمز الديني -إلى جانب ما وضعوه- في درجة المؤرخين والباحثين الجادين الذين وقفوا على تاريخ أم القرى في كافة الأصعدة، فقد قطع على نفسه وعداً أن يدون التاريخ العلمي والاجتماعي والثقافي لمعشوقته مكة المكرمة، فدوَّن عنها جمهرة من التصانيف التي أبرزت دور قبلة الدنيا الحضاري وما تتمتع به من شواهد علمية عرفها القاصي والداني، وهنا أذكر له مما صنف في هذا المجال بل واشتغل عليه بعناية فائقة هذه الكتب: "العلماء والأدباء والورقون في الحجاز" و"مكتبة مكة المكرمة" و"المسعى"، وغيرها من الكتب التي تثبت مدى اهتمامه الواسع بأرض مهبط الوحي وهو بذلك يترسم خطى الأولين من علماء الأمة، بفضل بصيرة النافذة وذكائه المتوقد وذاكرته الحافظة، أضف إلى ذلك حذقه ومهارته في صناعة مثل هذه الكتب.

واليوم سأقف عدة وقفات اجتماعية وتاريخية مع كتابه الأشهر "باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة"، الصادر عن مكتبة النهضة الحديثة والذي نال به جائزة نادي الرياض الأدبي قبل عقد من الزمان.

وقد نهض المؤلف أبو سليمان في هذا السفر الخالد على رصد مآثر هذا الباب -باب السلام- وما حمله من تاريخ مشرق مكلل بحركة علمية واقتصادية واجتماعية تبلور ما للبيت العتيق من مكانة سامية ودور رفيع.

ولئن كان مؤلف كتاب "باب السلام" في تقصيه كمن يحفر في الصخر إلا أنه جاء كتاباً تلاءم نسجه واستوت فصوله وأنصبت صفحاته في صميم الغرض فكأني به قد جمع فأوعى فمن أين اعتبرته وجدت فيه عظيم الفوائد، ولا ننسى كون هذا الباب "باب السلام" قد كان مدخلاً يمر منه رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- فمنحه شرفاً وبركة فعَّم شهرت هذا الباب الآفاق لا سيما وأنه قد شهد ثماني زيادات من مختلف العصور منذ أن شيده الخليفة العباسي المهدي عام (168هـ)، وقد ورد ذكره في عدد من مثاني كتب السير والمذكرات والرحلات بل فاضت قرائح الشعراء إعجاباً وحباً لهذا الباب استمع إلى ما أنشده الشاعر المكي حسين عرب عن هذا الباب الذي يخلب الألباب بما يحتويه من كتب تضمها المكتبات وحلقات علمية من داخل البيت الحرام وخلاوٍ تحمل بين جوانبها غرفاً للعلماء وطلابهم وخصص بعضها للزمازمة:

باب السلام عليك ألف سلامِ

لك من رُبى التوحيد والإسلامِ

كنا لديك وفي رحابك صبية

نجني من العلم الرحيق السامي

وعلى جوانبك المضيئة تلتقي

غرر العلوم وصفوة الأقلام

والمكتبات بجانبيك تألقت

تروي غليل المستجير الظامي

والحج والحجاج تترى أقبلوا

لورود منهل عذبك المتنامي.

والبابا تكوَّن كسوق منذ القرن الثامن الهجري حيث اصطفت حوله دكاكين البزازين والعطارين، بل كان باب السلام مقراً للشاهدين على رؤية الهلال لإثبات بدايات الشهور مثل رمضان والعيدين، أما المرافق التي حفت بهذا المكان الطاهر فمنها: المدارس التي كانت تحيطه من جميع الجهات لقرب المكتبات منها وأدوات الكتابة والتعليم ويقدر عدد هذه المدارس بأثني عشر مدرسة أشهرها مدرسة قايتباي ومدرسة الخطاطين، وكذلك المنارات وهي منارة باب السلام المطلة على دار الإمارة الكائنة بين المشرق والشام والتي شيدها الخليفة العباسي المهدي، إضافة إلى الميضأة الكبرى على يمين الداخل من الباب، إلى جانب الآبار التي منها بئر عند باب السلام الكبير وأخرى عند باب السلام الصغير كما يوجد مستشفى القبان الذي شيدته بزم عالم والدة السلطان عبدالحميد الثاني، لذلك كان هذا الباب ولما ما كان له من أهمية قصوى كان دخول الوفود الرسمية للخلفاء والأمراء منه، ثم أخذ هذا الباب يأخذ حظه من الحضور بين الناس تدريجياً حتى نهاية القرن الثالث عشر فتحول إلى مقر لسوق الوراقة (الكتبية) فأول من باع الكتب فيه العلامة محمد علي الكناني المكي وواحد من أسرة الباز وهو عبدالله بن محمد باز وآخر من آل فدا هو فدا محمد كشميري، ثم أخذت المكتبات في ازدياد ما جعل لهذه المهنة مشيخة تنظم أمور أصحابها ويمثلهم في الدوائر الحكومية ويرعى مصالحهم، فكان أول شيخ لهذه المهنة (الكتبية) الشيخ محمد ماجد كردي حتى كان آخرهم الأديب الشيخ صالح محمد جمال، ومما يؤكد التصاق هذا المكان بالكتب أنه كانت تعقد به المزادات (الحراج) على الكتب حسب ما يتوافر من تركة المتوفين من العلماء وطلبة العلم، علماً بأن مكتبات باب السلام قد أخذت على عاتقها توفير أكبر قدر من الكتب الدينية والأدبية والتراثية والنحوية والتاريخية التي تجلب من عواصم العالم الإسلامي والعربي مضيفة إلى ذلك صناعة الحبر بأنواعه وألوانه واستيراد الورق، وكذلك تجليد الكتب ما جعل سُمعة هذه المكتبات تتسع حتى وصلت إلى كثير من الأصقاع الإسلامية فقصدها كثير من العلماء من البلاد الإسلامي للتزود بالكتب النادرة والمصادر القيمة فأضحت هذه المكتبات خزانة الكتب وباباً للعلم في العالم، بل إن الكتب الحديثة أخذت طريقها إلى هذه المكتبات بواسطة مكتبة الشيخ عبدالكريم الخطيب بل أن مكتبة الثقافة التي انتهت ملكيتها إلى أحد مؤسسيها وهو الشيخ صالح محمد جمال قد جلب كتب المنفلوطي والعقاد والرافعي والزيات ودريني خشية وزكي مبارك وهيكل ومحمود تيمور وعبدالرحمن شكري والمازني وغيرهم.

ولذلك كانت هذه المكتبات وبيوتات علماء مكة المكرمة همزة وصل بين علمائنا والعلماء القادمين للحج حتى أن بلاد الهند كانت تستورد بعض الكتب الدينية والتراثية من هذه المكتبات فكأني بها معرضاً دائماً للكتاب وعُرف أن الشيخ محب الدين الخطيب حصل على كتابين مخطوطين نادرين قد يئس من الحصول عليهما وهما: "الفصول والغايات" لأبي العلاء المعري، و"شرح آمالي القالي" وجدهما عند الكتبي المكي الشيخ محمد ماجد كردي.

ومن المناظر المألوفة عند باب السلام من الداخل وجود جماعات الحفظة يؤمون الناس لصلاة التراويح وكذلك جلوس جماعة من القراء المكفوفين في صف منتظم من داخل الباب يتلون القرآن الكريم أملاً أن يتصدق عليهم المحسنون، وحين تتأمل بعض المكتبات وما تمارسه من عادات وطقوس غير بيعها للكتب نجد مكتبة الشيخ عبدالصمد فدا قد خصص مكتبته بعد صلاة المغرب للقراء الذين يجيدون ترتيل القرآن وتجويده فيجتمع عنده ثله من المقرئين أمثال المشايخ سراج قاروت ومحمد باحيدرة وعبدالصمد جنبي إضافة إلى بعض القراء المصريين، ويكون قد سبقهم بعد صلاة العصر جماعة من المنشدين يرددون بعض الابتهالات والمدائح النبوية ومن هؤلاء المنشدون حسن جاوه وسعيد أبو خشبة وأمين بخاري، في حين يأتي قريبه الأديب الشيخ عبدالله فدا الذي أشتهر بحسن الخطابة وإلقائه الشعر وكتابته للمقالات الأدبية ونشرها في مجلة المنهل في تلك الحقبة فنرى أن مكتبته تتحول إلى منتدى أدبي بعد صلاة العشاء فيؤمها كوكبة من الرواد منهم محمد سرور الصبان وأحمد الغزاوي وضياء الدين رجب وحمزة شحاته ومحمد شطا وأحمد عبدالغفور عطار ومحمد حسن عواد وحسن فقي وحسن قرشي وحسين سرحان وأحمد السباعي ومحمد سعيد العامودي، كما كان الشيخ عبدالله يلقي بعض دروس التقوية على بعض تلامذته بلا مقابل وهم من تلامذته في المدرسة الصولتية.

ومن الفنون التي كانت تمارس في بعض هذه المكتبات ما يقوم به الخطاط الشيخ محمد عبدالرحمن الدهان من كتابة اللوحات القرآنية على القماش والزجاج بحرفية عالية وقريباً من هذه الفنون والهوايات يأتي السيد حسن سليمان نوري مدير مطبعة مصحف مكة وكان من مؤسسي جمعية هواة الطوابع لأنه كان من أبرز هواتها، وهناك جانب اجتماعي مشرق ينم عن التكافل القائم بين أفراد المجتمع ذلك أن الشيخ محمد جعفر لبني كان إلى جانب مكتبته المعروفة يمارس عمل المحاماة في المحاكم الشرعية لا سيما عن الضعفاء والمعسرين والنساء الأرامل ووساطته لهم عند نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز، فلا يكل ولا يمل من قضاء حوائج الناس حتى أن أحد الأمراء شاهده وهو يتوسط لإحدى جاراته المعوزات فقال له الأمير كلمة مؤثرة جداً تنبئ عن شهامة اللبني: ألا ليتني جار لك.

وفي نفس السياق عرف عن السيدة نور شطا شقيقة السيدين محمد وعبدالله شطا تدينها وحفظها لأجزاء كثيرة من القرآن الكريم، وكانت بمثابة الأم الحنون مع جاراتها وأبنائهم فتقوم بتهدئة الخواطر حين يشتكين جاراتها لها مشكلاتهن مع أزواجهن أو أبنائهن، فتعود كل جارة لها مسرورة إلى بيتها.

ومن الجوانب الاجتماعية الأخرى إعلان الشيخ عبدالسلام كامل عن بيع الكتب النافعة على ذمة أصحابها ونشر إعلانات مكتبته في صحيفة صوت الحجاز، كما كان يستورد دفاتر كانت تتصدر أغلفتها الأولى والأخيرة صور الأمير عبدالله الفيصل في صباه وفي غلافها الأخير يكتب بعض النصائح لناشئة الطلاب والأبيات الشعرية التي تذكي روح النهوض والتقدم، ونلاحظ خصيصة أخرى في المجتمع المكي في تلك الأيام وهي مساندتهم لبعضهم البعض في الجانب التجاري فهذا الشيخ عمر الباز كانت لديه مكتبة في الجهة اليسرى من باب السلام وكان يديرها له الشاب -في ذلك الوقت - عبدالله محمد سعيد العرابي الذي أبرز نشاطاً دؤوباً ونجحاً كبيراً ما جعل الشيخ عمر الباز يزين له هذه المهنة ويشجعه في فتح مكتبة صغيرة بجواره ليعتاش منها، وهذا يذكرنا بموقف الشيخ محمد جعفر لبني حين جاء صديقه السيد محمد مصطفى العلوي الشنقيطي إلى مكة لأداء فريضة الحج وحين هم بمغادرة الحجاز كان الشيخ اللبني قد تعلق به لدماثة أخلاقه وسعة علمه وكثير محفوظه فما كان من اللبني إلا أن حَسَّن له الإقامة في مكة ورجاه بأن يشاركه بيع الكتب في مكتبته لأنها مهنة تتوافق مع مقامه فأمضى حياته في باب السلام يبيع الكتب ويؤلف ويصنف ويحقق بل كانت مكتبته عامرة بمشايخ كبار العلماء الذين يترددون عليها، وتمثل شخصية الشيخ مصطفى أحمد باز منتهي السماحة والكرم فقد كان يستورد كتبه من مصر ولبنان وباكستان والعراق وإيران ويبيعها بالجملة للمكتبات الخاصة والعامة واشتهر بين الكتبية بتخفيض أسعار الكتب ليغري الشباب والطلاب بالقراءة وقد وصل به الكرم أنه كان يسهم في التبرع بالكتب للمكتبات العامة ومكتبات المدارس والجامعات فيقدم للمجتمع جيلاً جديداً محصناً بالمعرفة والثقافة.. ولعل البعض منا يتوقع أن مكتبات باب السلام لا تبيع سوى الكتب الدينية والنحوية والتراثية لكن الحقيقة أن بعضاً من هؤلاء الكتبية يحملون أفقاً تنويرياً، فهذا الشيخ الحلواني صاحب مكتبة المعارف والذي عرف بصناعة التجليد الفني كان يجلب لمكتبته الكتب الأدبية الحديثة وذات الطابع الفكري والفلسفي لناشئة الأدب في الحجاز، فتجد بمكتبته مؤلفات طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفي السيد وسلامة موسى وحنا خباز وداروين وإسماعيل مظهر وأحمد وفيق، وفي هذا الصدد لا ننسى دور مكتبة السيد هاشم نحاس الذي كان وكيلاً لعدد من المجلات المصرية الشهيرة مثل الهلال والمصور والكواكب وحواء والاثنين وتأتي في نفس المهمة مكتبة الثقافة لصاحبها الشيخ صالح جمال التي كانت تبيع بعض الصحف والمجلات المصرية كأخبار اليوم وروز اليوسف والرسالة والثقافة ما جعلها قبلة للمثقفين والأدباء والصحفيين، أما كتب الأطفال فأول من استوردها من مصر مكتبة الشيخ أحمد عويضة السناري من دار المعارف الأمر الذي جعل مكتبته مقصداً للفتيان يرغبهم في قراءة هذا النوع الجديد من الكتب إما بشرائها أو تأجيرها بأجر زهيد وقد يقوم بإعطائها لهم نظير تنظيمهم للمكتبة أو تنظيفها. ومن غريب تلك الحقبة وطريفها أن الشيخ أحمد علي شمشير صاحب إحدى المكتبات كان إلى جانب اتقانه اللغة العربية يجيد اللغات الأوردية والتركية ويلم أيضاً بالإنجليزية، بل كان يترجم للأمير فيصل نائب جلالة الملك في الحجاز حين استقباله لوفود دولة الهند، ذلك أن الشيخ شمشير كان أحد خريجي المدرسة الرشدية حيث تخرج فيها عام (1330) بتقدير ممتاز ونال نظير تفوقه كتاب "صحيح البخاري" بل رشح من قبل الدولة العثمانية اكمال دراسته في العاصمة الإستانه، لكنه لم يذهب وبقي مدرساً في مدرسته الرشدية حتى سافر إلى الهند ليلتحق بالجيش النظامي التابع لمملكة حيدر أباد، كما تعلم في الهند تصليح الساعات وتجليد الكتب وحين عاد إلى مكة احترف الترجمة الفورية والكتابية من اللغتين التركية والأوردية وتدريسهما بلا مقابل، إلى جانب صناعة الكحل، بل كان في وقت فراغة يقوم بتنظيف مدخل المسعى من جهة باب السلام.

وقد حظي المجتمع المكي بكثير من فنون الإدارة، فهذا الشيخ مصطفى ميرو صاحب إحدى المكتبات وهو أحد الذين يمارسون تجارة استيراد الكتب باستخدام طريقة الترميز في مراسلاته لإحضار الكتب، كما كان يساعد المستجدين في مهنة بيع الكتب ولا يبخل عليهم بالنصح.

ومن الحقائق التي غابت عن الكثيرين في تلك المرحلة: أن رهط من علماء مكة المكرمة لا يتجاوزون السبعة تعاونوا لطباعة كتاب "خزانة الأدب" للبغدادي ليطبع في مطبعة بولاق بالقاهرة ولاجرم أن هذا وعي مبكر من قبل هؤلاء العلماء، بل أن الشيخ فدا محمد كشميري كان ممن أسهموا في تأسيس مطبعة البابي الحلبي بالقاهرة، ولكون المجتمع المكي صاحب أوليات، فإن الأديب والمؤرخ الشيخ عمر عبدالجبار يعد أول من ألف كتباً للأطفال باللغة العربية، كما عرف عنه اهتمامه الكبير في حقل التعليم بين أفراد المجتمع فأفتتح أول مدرسة للبنات بمكة المكرمة عرفت بمدرسة الزهراء للبنات، ناهيك عن تأليفه للمناهج المدرسية في تلك الفترة، وما دمنا نتجاذب حديث الأوليات في مكة المكرمة فقد شرفت هذه المدينة بطباعة القرآن الكريم عبر مطبعة مصحف مكة المكرمة بحي الشبيكة لصاحبها السيد حسن النوري، وقد خطه الشيخ محمد طاهر الكردي ومن الأوليات كذلك إنشاء أول مصنع للسبح أسسه الشيخ محمد أحمد بوقري بعد أن كانت تستورد من الخارج.

كما ظهر الإعلان التجاري في مكة في الصحف والمجلات في ذلك الوقت من خلال الغلاف الخلفي للكتاب، وقد حفلت هذه المكتبات ببيع قطع صغيرة من كسوة الكعبة للحجاج الذين يحرصون على اقتنائها للبركة والذكرى كما تبيع هذه المكتبات للحجاج أيضاً صور ملونة للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة ومن المهن التي عرفها المكيون مهن كثيرة لكنها تحمل شيئاً من الطرافة والغرابة، حيث إننا لا نجدها في عصرنا الحاضر ومن هذه المهن: مهنة نسخ الكتب التي كانت رائجة قبل انتشار الطباعة في مكة المكرمة ومن أبرز من امتهنها الشيخ محمد الحضراوي والد العلامة أحمد الحضراوي فقد كان ذا خط حسن فأخذ ينسخ جملة من الكتب ككتاب "التحفة" و"النهاية" و"التحرير" و"القرآن الكريم" وغيرها من الكتب كما راج في باب السلام بيع الكحل بنوعيه كحل الحجر وكحل الدلال وتولى مشيخة هذه المهنة الشيخ أحمد البوصي، وبائعو الكحل كانوا بمنزلة أطباء العيون يستشيرهم الناس إذا عانوا من آلام العيون، كما عرف المجتمع المكي في تلك الحقبة صناعة الحبر الأسود الذي كان يصنع من تحميض النوى ثم يسحق فيجفف ويدخل في قارورة الحبر ليحفظ من الانسكاب.

كما عرف المجتمع المكي مهنة الخط وذلك على شكل لوحات للآيات القرآنية والإدارات الحكومية والإعلانية للمحلات التجارية ومن أشهر من امتهنها الشيخ محمد الدهان والشيخ حسن سندي والشيخ محمد طاهر الكردي، ومن المهن الأخرى كتابة العرائض حيث إن الأميين الذين لا يلحقوا بركب التعليم في الكتاتيب والمدارس يلجؤون إلى من يكتب لهم عرائضهم وشكواهم وهم أيضاً يبيعون الطوابع البريدية فالنظام الحكومي السابق لا يقبل أي معروض أو شكوى دون أن تضع عليه طابع رسمي وهو ما كانت وزارة المالية تقوم بتوزيعه لمن يقوم ببيعه وكان الشيخ عمر بن عبدالكريم باز وكيلاً رسمياً لوزارة المالية لبيع الطوابع، حتى ألغت الحكومة نظام الطوابع في تسعينات القرن الهجري الماضي، ولا أنسى مهنة صناعة الأختام النحاسية فمعظم طوائف المجتمع المكي من العلماء والقضاة والمسؤولين وكذلك العامة يحتاجون إلى ختم خاصة فانتشرت هذه المهنة في أطراف ساحات باب السلام يضعون لهم جامة (بشتختة) أمام بعض المكتبات فتساق لهم أرزاقهم وكان ممن عمل بهذه المهنة الشيخ يوسف الباز والشيخ حسن مهرجي والشيخ علي حبحب والشيخ أحمد الرفاعي والد الأديب المعروف الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي، وإذا تأملنا كتاب "باب السلام" من جانب اجتماعي بحت وجدناه يضم جملة من ملامح حياة المكيين التي كانت تمارس في ذلك الزمن البعيد، لكن في طيات بعضها غرابة وطرافة بل أن بعضها يدل على تكاتف هذا المجتمع، وهذه الممارسات لا نجدها هذه الأيام والتي منها: قصة الشيخ عبدالرحمن معجون أحد أئمة الحرم المكي الذي صلى ركعتين من صلاة التراويح بعشرة أجزاء من القرآن الكريم، مما أضطر بعض المأمومين لقطع الجماعة واتمام الصلاة منفرداً، ومن العادات المكية الماضية أن تجد من يردد قصائد المديح النبوي في ساحة باب السلام لدى عزمهم السفر للمدينة لزيارة المسجد النبوي الشريف وهو ما يعرف بالمزهد وهو بذلك -أي المزهد- يثير شجون الحب النبوي في نفوس الآخرين واستمرت هذه العادة حتى السبعينات الهجرية من القرن الرابع عشر الهجري، أما العلاقات التي كانت تربط أصحاب المكتبات مع بعضهم البعض فهي أنهم إذا حلَّ موسم الحج ازدادت حركة البيع وازدهرت حتى أن من القوة الشرائية التي يحييها الحجاج نجد أن كثير من أصحاب المكتبات يبقون لساعات متأخرة من الليل مع زبائنهم حتى إذا طغى عليهم النعاس فرشوا سجاجيدهم أمام محلاتهم وأخذوا قسطاً من النوم حتى إذا أذن الفجر فيؤدوا الفرض ثم يعودون إلى مكتباتهم التي تستقبل حجاج بيت الله الحرام، حتى إذا غادر موسم الحج وأظلتهم أيام البسارة رأيت الكتبجية وأصحاب المهن الأخرى، يخرجون إلى المنتزهات والبساتين التي كانت بحي الشهداء و جرول لقضاء أوقات النزهة والتسامر ويعدون (أكلة المعدوس) أو يعد لهم الشيخ عبدالكريم فدا وجبة (المبشور) الذي كان أحد الماهرين بها، واذا تأملت بعض المناظر التي كانت مألفه في تلك الحقبة تجد أحد الدراويش الذي كان يدعى سليمان لا يرتدي إلا إزاراً فقط ويظل يتردد على الساحات الخارجية لباب السلام وهو يردد:

يا عالم بالحال حالي ما يخفاك

يا نعم المولى مالي رباً سواك..

ومما عرف عن العلامة الشيخ عيسى رواس حياته الحافلة بالشجاعة والبطولة فقد حدث له عام (1356هـ) أن خرج عليه حاج من بلاد الملايو بعد أن طعن سبعة عشر رجلاً مات منهم خمسة، فما كان من الشيخ رواس إلا أن لوَّح في وجهه بالعصا ليضربه فما كان من هذا القاتل إلا أن يعود للحوش الذي خرج منه فتمكنت الشرطة من القبض عليه وتقديمه للمحاكمة.

وجملة القول في هذا الكتاب "باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة".. لمؤلفه فضيلة الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان، إنه كتاب استوفى فيه المؤلف على الغاية، وهو نمط فريد من الكتب وجاء مرتباً ترتيب الأيام في مجرى الزمان لكونه قد عرضه بالأسلوب المشوق والبيان المشرق ولو لم يكن لهذا الكتاب إلا أن جمع لك بين دفتيه ما تفرق في مجلدات خزانة كاملة فقربه إليك ووضعه بين يديك لكفاه، ذلك أنه كتاب من أين اعتبرته وجدت فيه فائدة، وهو دليل على علو مكانة مؤلفه وسعت علمه وحرصه على التقصي الدقيق مع أمانته العلمية المشهودة.

''''