الأستاذ منيف خضير الضوي

١٠:٤٧ ص-٢٤ يوليو-٢٠٢٣

المصدر : منيف الضوِّي
التاريخ: ١٠:٤٧ ص-٢٤ يوليو-٢٠٢٣       158

كان "إبراهيم" يذرع حديقة المستشفى جيئةً وذهاباً يُحدّث نفسه عن مولوده الذي قدم أثناء دخوله المستشفى المتخصص بمرضى السل في بيروت، وقد مضت الشهور ولم يتمكن من رؤية مولوده البكر، قطع عليه حديث نفسه صوت نشيج قادم من أقصى الحديقة، اقترب من الصوت وإذا به يشاهد الممرضة المسيحية "روز" متكورة على نفسها تحت شجرة تبكي بحسرة، دُهش إبراهيم وسألها: مابك؟
تذكّر أن وقوفه بجانبها قد يجلب الشبهة وسوء الظن، خصوصاً وأن المستشفى ممتلىء بالمرضى السعوديين الذين يحتلون الدور الرابع كاملاً؛ حيث زاد عددهم بعد أن تكفّل الملك سعود -رحمه الله- بعلاج المواطنين على نفقة الدولة؛ لغلاء تكاليف العلاج في هذه المصحّة البيروتية الشهيرة.
قالت روز: 
وهل وقتك يسمح يا إبراهيم بسماع قصتي؟
لاحظت ارتباكه، وتحرُّجه من الوقوف أمامها، وهو المعروف بمحافظته.
فقالت له: 
إذا ماعندك مانع، أزورك الليلة في غرفتك وأحكي لك الموضوع.
أُغلِقَتْ الأنوار في أجنحة المرضى قبل التاسعة مساءً بحسب أوامر مديرة المصحّة العجوز الصارمة التي تتفقد كل شيء بنفسها، وقد اطمئنتْ أن الجميع أوى إلى فراشه.
كان إبراهيم ينتظر روز ليسمع حكايتها التي أشغلته تعاطفاً مع هذه الممرضة التي حظيت باحترام الجميع.
دخلت روز غرفة المريض السعودي "إبراهيم"، الذي رحّبَ بها رغم الظلام الدامس، وجاوبته دموعها التي انهمرت وقالتْ له: 
حلفتك بربك يا إبراهيم إن السر يبقى بيننا، ثم قالت له: 
أنا مسلمة سنيّة ولستُ مسيحية كما يظن الجميع، واسمي فاطمة!
دُهش إبراهيم، ثم قال: وأين المشكلة في ذلك؟
قالت روز وهي تغالب نشيجها: 
أخفيتُ ديانتي عن المستشفى لأنهم لن يقبلوني ممرضة عندهم إذا عرفوها، والمشكلة أنني الآن مصابة بالسل؛ حيث انتقلت لي العدوى منذ أشهر، وبدأت أشعر بالمرض يفتك بي يوما بعد يوم، ولا قبل لي بتكاليف العلاج الباهظة هنا، وأخذت تجهش بالبكاء، وإبراهيم يحاول تهدئتها ومواساتها ، ثم تمالكتْ نفسها وقالت:
لو عرفوا أنني مسلمة لطردوني؛ لأن المصحة أنشَأَتْهَا راهبات فرنسيات متبرعات، ويديرها مسيحيون لبنانيّون، ولن يسمحوا لي بالبقاء كممرضة، ولا قِبَل لي بنفقات العلاج.
طمأنها إبراهيم ووعدها بأنه سيجد حلا بإذن الله.
في الصباح الباكر وبعد الصلاة طلب إبراهيم من المرضى السعوديين أن يجتمعوا لأمر هام، وحكى لهم حكاية "فاطمة"، وطلب منهم كتمان سرها، وكعادة السعوديين تفاعلوا مع الموضوع وأعلنوا استعدادهم للتبرع بتكاليف علاجها، ولكن هذا الحل لم يرُق لإبراهيم لأن المبلغ ربما لا يكفي لأيام العلاج التي قد تطول.
لم يَنَمْ إبراهيم ليلته تلك يفكر في فاطمة التي أحالها المرض إلى شحوب واصفرار، وقد لمعتْ في ذهنه فكرة مجنونة تسللت إليه رغم تفكيره النمطي.
في اليوم التالي جمع إبراهيم المرضى السعوديين وقال لهم:
مَنْ منكم يقبل بالزواج بفاطمة؟!
ساد الصمت والذهول الجميع، ولم يُجب أحد.
فقال إبراهيم لصديقه "الغامدي":
مارأيك لو قدمت عملاً لله؛ فأنت وفاطمة كلاكما تعانيان من مضاعفات السل، ولو وافقتَ على الزواج منها؛ لأصبحتْ فاطمة سعودية وبذلك تستطيع العلاج مجاناً على نفقة الحكومة؟!
وبعد تردد وافق الغامدي على هذا القرار الإنساني، وتم عقد القران بموافقة أسرة فاطمة الفقيرة، وصدرت الموافقة على علاج فاطمة على نفقة الحكومة السعودية.
وكانت المفاجأة أن مديرة المستشفى العجوز رفضتْ قبول فاطمة بالمستشفى بحجة أنها ممرضة وأنها كذبتْ عليهم!!
ولكن إبراهيم ورفاقه اعتصموا واتفقوا جميعاً إن لم تقبلْ دخول فاطمة للعلاج سيغادرون المصحة.
وهنا رضختْ المديرة وقبلتْ علاج المريضة السعودية فاطمة.
وبعد أشهر منَّ الله بالشفاء على إبراهيم والغامدي وزوجته فاطمة، وغادروا المستشفى؛ حيث سافر العريسان إلى احدى قرى الباحة حيث يسكن الغامدي.
بعد أكثر من عقدين من الزمان زار "إبراهيم" الباحة، فخطر في باله زيارة العروسين والاطمئنان عليهما بعد هذه السنين.
وسأل عن الغامدي باسمه الكامل في تلك القرية فلم يتعرّفْ عليه أحد، ولمّا سأل عن السعودي الذي تزوج بلبنانيه أجابوه فوراً: تقصد الدكتورة فاطمة؟!
فأشاروا إلى عدة مبانٍ ضخمة متجاورة، فقالوا له:
هذه العمائر كلها لها، ومنزلها هناك.
حينما رأته فاطمة وزوجها تركت المنجل الذي تُشذِّب به أشجار الحديقة، وركضتْ إليه تناديه مرحبة:
عمي إبراهيم، عمي إبراهيم…
فاحتظنت هذا الشيخ النجدي الوقور رغماً عنه، وقبّلتْ رأسه ويده، وجاء زوجها مرحباً واحتضن صاحبه الذي غيّر حياته، وفي جلسة أخوية قال له الغامدي:
رزقنا بالأولاد والبنات، وأخذت فاطمة تمارس التمريض حتى عُرفت بالطبيبة، وابتسمت لنا الحياة كأجمل مايكون، وبعض أولادنا يدرسون الطب حالياً في أمريكا.
هذه القصة (الحقيقيَّة) أوردها "إبراهيم الحسون" في كتابه "خواطر وذكريات"، وهي بلاشك تعكس جزءا من شهامة السعوديين.

١١:٤١ م-١٣ اكتوبر-٢٠٢٤
١١:٥٨ ص-٠٧ اكتوبر-٢٠٢٤
٠٤:٥٤ م-٠٥ اكتوبر-٢٠٢٤
١١:٤٠ ص-٣٠ سبتمبر-٢٠٢٤
٠٩:٤٩ م-١٥ سبتمبر-٢٠٢٤