الأستاذ / ماجد جديع العنزي

١٢:٣٥ م-١٧ ديسمبر-٢٠٢٣

المصدر : الأستاذ / ماجد جديع العنزي
التاريخ: ١٢:٣٥ م-١٧ ديسمبر-٢٠٢٣       524

ما أبشع الكاتب إذا كان في قلمه ولو قطرة حبرٍ من حسد أو تعصب، فلاشك أنه سيمضي به إلى التدليس والكذب، وتلك مثلمة في سيرة شخص إشتهر بالثقافة والأدب، وقد ألّف أكثر من عشرين كتاباً، ذلك هو الكاتب والأديب والشاعر الأسعد ابن المهذب ابن مماتي، رئيس ديواني الجيش والمال في عهد صلاح الدين الأيوبي في مصر، له مؤلفات كثيرة ومن ضمنها كتاب يُعتبر وصمة عار في جبين ابن مماتي وجريمةٌ أدبية لما فيه من كذب وحقد وحسد على أعظم وزراء صلاح الدين الأيوبي في مصر بهاء الدين قراقوش وأحد أمهر المهندسين المعماريين في زمنه.
 
هذا الكتاب إسمه ”الفاشوش في أحكام قراقوش“ ومعنى الفاشوش هو ضعيف الرأي والعزم، وهذا الكتاب هو سقطة في تاريخ ابن مماتي الأدبي وحاله في تأليفه كمن يخبط خبط عشواء ويركب متن عمياء، وهي محاولة منه للإساءة لقراقوش وتشويه صورته والطعن في حكمه وأحكامه وتزوير إنجازاته العظيمة فهو كتاب بلا أي قيمة أدبية أو تاريخة موثوقة، وللأسف لازال البعض يعتبر ما ورد في هذا الكتاب حقيقة تاريخية عن قراقوش، بالرغم من رد بعض المؤرخين على هذا الكتاب على مدى مئات السنين دفاعاً عن البطل والقائد بهاء الدين قراقوش، ورغم ذلك إنتشر هذا الكتاب بسرعة مذهلة بين العامة عبر التاريخ رغم قِلة محتواه المتكون من ٢٣ قصة ملفقة وغير صحيحة إطلاقاً عن أحكام قراقوش تتسم بالظلم والحمق والغباء والسذاجة، وتداول الناس محتواه في مجالسهم ضاحكين وساخرين وأغلبهم مصدقين كل كلمة فيه بل أنهم قد زادوا فيه بعض الحكايات المكذوبة، وكان أحد أهم أسباب إنتشاره بين العامة هو صياغته للأحكام المضحكة والغريبة في آنٍ واحد، وكتابته بلهجة عامية يفهمها العامي البسيط ليكون مُضغة على كل لسان، فالكتاب موجهٌ للعامة والبُسطاء وليس لطبقة المثقفين والمفكرين وهذا ماجعله حياً إلى يومنا هذا والدليل أنه لازلنا في وقتنا الحاضر قد نسمع أو نقرأ عبارة ”حكم قراقوش“ لأي قرار ظالم أو غبي، 
مما حدا بالمؤرخ تقي الدين المقريزي أن يقول عن هذا الكتاب: ”إنه مجموعة من الأكاذيب“ ويقول أيضاً: ”إن وصف ابن مماتي لقراقوش زيف ولا أساس له من الصحة“.


الأسعد ابن مماتي.

كان لأسرة ابن مماتي النصرانية مكانة رفيعة وحظوة في عهد الدولة الفاطمية في مصر، فكان جده مستوفي الدواوين في عهد الدولة الفاطمية، وتولى أبوه رئاسة ديوان الجيش في عهد صلاح الدين الأيوبي بعد أن أشهر إسلامه هو وعائلته في حضرة صلاح الدين، فزاد هذا الأخير في إكرامهم وتوليتهم لأهم المناصب بالدولة، وورث الأسعد ابن مماتي رئاسة ديوان الجيش بعد وفاة والده المهذب، وأُضيف إليه رئاسة ديوان المال، وبعد وفاة صلاح الدين الأيوبي، تضاءلت حضوة ابن مماتي إلى أن تم عزله عن ديوان الجيش و ديوان المال بعد أن سلط الله عليه الوزير صفي الدين ابن شكر، فلا زال به حتى تم عزل ابن مماتي وهرب خفية ليختبىء في إحدى المقابر، وفي ليلةٍ ليلاء أطلق ساقيه للريح إلى أن إبتلعه الظلام الحالك، وبعد رحلة مضنية أرخى رحاله في حلب مقيماً بها إلى أن مات في العام ٦٠٦ هجرية.


أسباب تأليف هذا الكتاب.

يُقال أن من أسباب تأليف ابن مماتي لهذا الكتاب هو بسبب الحقد والحسد على قراقوش من باب النزاع على السلطة وفرض السيطرة وذلك أن قراقوش كان قائداً صارماً مُهاباً ولايحب التملق والتباهي مما أثار غيرة ابن مماتي، ويُقال أيضاً من جهة أخرى أنه إنتقام من قراقوش لدوره البارز في القضاء على حكم الدولة الفاطمية وأن الأسعد إبن مماتي لازال يضمر الشر والحقد له  بسبب تلك الحادثة التي كان لبهاء الدين قراقوش دور بارز وحاسم في أحداثها، وللأسف لازال تشويه صورة بهاء الدين قراقوش موجود في وقتنا الحالي كما تم ذلك في فيلم صلاح الدين الأيوبي عندما إتهموا قراقوش أنه سلّم عكا إلى الصليبيين وهو بنفسه من يسكب لهم الخمر إحتفالا بذلك! وماعلِموا أنه صمد هو وجنوده في حصار الصليبيين لهم في عكا لأكثر من سنتين وكم ضحوا في تلك الموقعة وكم واجهوا الأهوال حتى سقطوا أسرى إلى أن افتداهم صلاح الدين الأيوبي وأخرجهم من الأسر.


قراقوش الحقيقي.

تميز بهاء الدين قراقوش بالقيادة والحزم وقوة الشكيمة والإخلاص والتفاني والعبقرية، وكان ذو رأي لا ينفذ إليه الغبار، فقد كان أحد ثلاثة رجال أسس صلاح الدين أركان دولته بهم، وكان أيضاً مهندساً معمارياً من طراز رفيع، وله أثار باقية في مصر إلى يومنا هذا، فقد بنى قلعة الجبل بالقاهرة وأيضاً سور القاهرة التي بقيت أثاره إلى الأن، فضلاً عن بعض القلاع الأخرى والحصون مروراً بتمهيد الطرق وبناء الجسور وبناء قناطر الجيزة بحرفية هندسية مبدعة وبالغة الدقة، عكف على خدمة صلاح الدين وإبنيه من بعده مدة ٣٣ سنة إلى أن توفي في رجب من العام ٥٩٧ هجرية.

قالوا عن قراقوش.

يقول عنه صلاح الدين الأيوبي:
”ما أرى لكفاية الأمر المهم، وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، والمضيء الفهم الهمام المحرب، النقاب المجرب، المهذب اللوذعي، المرجب الألمعي، الراجح الرأي، الناجح السعي، الكافي الكافل بتذليل الجوامح، وتعديل الجوانح، وهو الثبت الذي لا يتزلزل، والطود الذي لا يتحلحل، بهاء الدين قراقوش، الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش“.

ويقول ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان:
”كان حسن المقاصد، جميل النية، وله حقوق على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين“.

وقال عنه ابن ياس في كتابه بدائع الزهور:
”كان قراقوش القائم بأمور المُلّك، يسوس الرعية في أيامه أحسن سياسة وأحبته الرعية ودعوا له في طول البقاء“.

ويقول ابن تغري بردي في كتابه النجوم الزاهرة:
 ”كان رجلاً صالحاً غلب عليه الإنقياد إلى الخير، وكان السلطان صلاح الدين الأيوبي يعلم منه الفطنة والنباهة وكان يفوض له أمر البلاد إذا سافر“.


العِبرة.

قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
في هذا الزمن وفي سطوة وسائل التواصل الإجتماعي توجد ألاف مؤلفة من طينة وفِكر ابن مماتي، فتجدهم يتنافسون في الكذب ويتنفسونه، ويُزيفون الحقائق ويحاولون طمس أي إنجاز يغيضهم بكل برنامج إجتماعي، ويطعنون بكل ناجح، ويشككون بكل مخلص، وهناك منظمات تعمل ليل نهار لتقويض تكاتف ولُحمة أي مجتمع مُستهدف من قِبَلهم، ويدسون السم بالعسل لتنطلي شُبهاتهم على العامة، لذلك يجب على هذا المجتمع أن لايكون مثل المجتمع الذي بث فيه ابن مماتي سمومه من خلال كتابه "الفاشوش" فلو أن ذلك المجتمع رفض ذلك الكتاب وفضح كذب مؤلفه في حينه ودافعوا عن القائد قراقوش لما انتشر هذا الزيف، ولم يكن ليصل إلينا في هذا الزمن بعد أكثر من ٨٠٠ عام من تأليفه، لذلك يجب الوقوف في وجه كل من يجدف بمجدافي ابن مماتي ويُسخر قلمه ولسانه بتزيف الحقائق ويوهم العامة بِكَذِبهِ وتدليسه وإتهاماته، فعقول الناس الأن أكثر إدراكاً وفطنة في مواجهة هذه الفئة الناعقة، فقصة قراقوش وكتاب ابن مماتي هي عبرة وصلت إلينا من أعماق التاريخ فهل نحن مُعتَبِرون.

 

١١:٤١ م-١٣ اكتوبر-٢٠٢٤
١١:٥٨ ص-٠٧ اكتوبر-٢٠٢٤
٠٤:٥٤ م-٠٥ اكتوبر-٢٠٢٤
١١:٤٠ ص-٣٠ سبتمبر-٢٠٢٤
٠٩:٤٩ م-١٥ سبتمبر-٢٠٢٤